8/10/2009

تعريف عصر النهضة


حركة ثقافية كبرى بدأت في إيطاليا أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ثم انتشرت في كل من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا وأسبانيا، وبلاد أخرى، في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وسرعان ما انتهى عصر النهضة تدريجيًا في القرن السابع عشر الميلادي.

في خلال عصر النهضة قام عدد كبير من العلماء والفنانين الأوروبيين ـ في إيطاليا خاصة ـ بدراسة علوم بلاد اليونان وروما القديمة وفنونهما. أراد هؤلاء بعث روح الثقافتين الإغريقية والرومانية في أعمالهم الفنية والأدبية والفلسفية. وكانت الثقافتان اليونانية والرومانية القديمتان تعرفان غالبًا بالتراث الكلاسيكي
. وكان العرب قد أولوا اهتمامًا بالعصور الإغريقية والرومانية، وبخاصة في مجال العلوم، وكانت مثل هذه المعارف قد أصبحت مفقودة في أوروبا؛ لذلك كان الإسهام العربي الكبير في نقل أغلب إنجازات الإغريق والرومان وما أضافوه من المخترعات والعلوم هو الأساس الذي فجر النهضة في أوروبا، وكان عصر النهضة بعثًا لهذه الثقافات، ولذلك يعرف أيضًا بأنه إحياء العصور القديمة
أو إحياء المعرفة
.

تداخل عصر النهضة مع نهاية حقبة في التاريخ الأوروبي تعرف بالعصور الوسطى، بدأت في القرن الخامس الميلادي. رفض قادة عصر النهضة عددًا كبيرًا من مواقف العصور الوسطى وأفكارها. فقد اعتقد مفكرو أوروبا في العصور الوسطى، على سبيل المثال، بأن الواجب الرئيسي للناس هو الصلاة والاهتمام بخلاص أرواحهم، وأن المجتمع مملوء بالمغريات الشريرة. لكن مفكري عصر النهضة ركزوا، من ناحية أخرى، على مسؤوليات الناس وواجباتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، واعتقدوا أن المجتمع يستطيع أن يجعل الناس متحضرين أكثر مما يجعلهم أشرارًا.

كانت دراسة اللاهوت، في العصور الوسطى، أكثر فروع المعرفة أهمية। لكن عددًا كبيرًا من مفكري عصر النهضة أعاروا اهتمامًا أكبر للدراسات الإنسانية. ومحَّصوا الإنجازات الكبرى للثقافات المختلفة، وبخاصة ثقافتي اليونان وروما القديمة، وتأملوا طويلاً مؤلفات العرب وشروحهم على ما نقلوه.

رسم فنانو العصور الوسطى أشكالاً إنسانية كانت تبدو متجهمة وغير واقعية، وغالبًا ما تخدم أهدافًا دينية رمزية. لكن فناني عصر النهضة ركّزوا على جمال الجسم الإنساني. وحاولوا أن يجذبوا الانتباه إلى سمو الكائنات الإنسانية وعظمتها في رسومات ومنحوتات نابضة بالحياة.

جرت المتغيرات التي أحدثها عصر النهضة تدريجيًا دون أن تحدث تأثيرًا مباشرًا على معظم الأوروبيين. فعندما وصلت هذه الحركة إلى أوجها، ما بين أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين، لم تكن الأفكار الجديدة التي جاءت بها مقبولة إلا من عدد قليل من الناس. وقد ثبت أن تأثير عصر النهضة في الأجيال التالية، كان كبيرًا جدًا، في ميادين عديدة، بدءًا من الفن والأدب إلى التربية والعلوم السياسية والتاريخ. وبناء على هذه الحقيقة وافق معظم العلماء ـ منذ مئات السنين ـ على أن الحقبة الحديثة من التاريخ الإنساني بدأت مع عصر النهضة.


النهضة الإيطالية
إيطاليا في عصر النهضة

كانت تشتمل على حوالي 250 دويلة، معظمها كان يخضع لحكم مدينة واحدة. بدأ عصر النهضة خلال القرن الرابع عشر الميلادي في الدول ـ المدن الواقعة في شمالي إيطاليا. ضمت مراكز عصر النهضة الأولى مدن فلورنسا وميلانو والبندقية.
الخلفية السياسية.
لم تتوحد إيطاليا حتى سنة1860م. وكانت في بداية عصر النهضة تتألف من نحو 250 دويلة منفصلة، ومعظمها كان خاضعًا لحكم مدينة واحدة. وكان بعض هذه المدن يترواح عدد سكانه ما بين 5,000 و 10,000 نسمة فقط. وبعضها الآخر كان تابعًا للمدن الكبرى في أوروبا. فعدد سكان كل من فلورنسا وميلانو والبندقية، مثلاً، كان لا يقل عن 100,000 نسمة في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي.

كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة ـ في فجر عصر النهضة ـ تحكم معظم إيطاليا حكمًا اسميًا. ومن ناحية أخرى كان الأباطرة يعيشون في ألمانيا، وكانت سلطتهم على ممتلكاتهم الإيطالية ضئيلة. وحكم البابوات إيطاليا الوسطى، بما في ذلك مدينة روما، لكنهم لم يستطيعوا مد سلطتهم السياسية على بقية إيطاليا. ولذلك لم تقم، في إيطاليا، سلطة مركزية توحّد كل تلك الدول.

وفي أواسط القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الميلاديين، وقع عدد من المدن الإيطالية الرئيسية تحت سلطة أسرة واحدة. فحكمت أسرة فيسكونتي، مثلاً، مدينة ميلانو من أوائل القرن الرابع عشر الميلادي حتى سنة 1447م، عندما مات آخر رجل من هذه الأسرة. فسيطرت على ميلانو بعدها مباشرة أسرة سفورتزا وحكمتها حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. ووجدت أسر حاكمة أخرى، في إيطاليا، منها أسرة إيسته في فرارا، وأسرة جونراجا في مانتوفا، وأسرة مونتيفلترو في مدينة أوربينو.

كان شكل الحكم الذي أقامته الأسر الحاكمة في المدن الإيطالية يسمى نظام حكم السينيوريا
(السادة). وكان الموظف الرئيسي يعرف باسم سينيوري
(السيد). وكانت السلطة كلها تتركز بيد السيد وأصدقائه وأقربائه. وبرز ببطء بلاط منظم حول حكومة كل سيد، حيث احتشد فيه كبار الفنانين والمفكرين والسياسيين، تحت رعاية السيد.

وفي مدن إيطالية أخرى وُجد شكل آخر من أشكال الحكم عرف بالحكم الجمهوري
. وكانت تسيطر على الحكم في المدن الجمهورية طبقة حاكمة. وقد عدّ أفراد الطبقة الحاكمة أنفسهم أرفع مكانة من سكان المدينة الآخرين. وأهم أمثلة الحكم الجمهوري كانت في فلورنسا والبندقية.

تألفت الطبقُة الحاكمة ـ في مدينة فلورنسا الجمهورية ـ من نحو 1,800 أسرة من أسر المدينة الأكثر ثراء. وتزاوج أفرادها من بعضهم. وعاشوا في قصور كبيرة وجميلة بناها معماريو عصر النهضة. ودفعوا أموالاً كثيرة من أجل بناء العمائر الدينية والمدنية الضخمة، وإقامة منشآت عمرانية كبيرة لها أثرها في النفوس في كل أرجاء فلورنسا، كما أنهم دعموا الفنانين والمفكرين. وبالإضافة إلى ذلك فقد شجَّعت الطبقُة الحاكمُة دراسة أعمال الكتّاب الإغريق والرومان القدماء، وذلك رغبة منهم في جعل مجتمعهم يطّلع على ثقافات العصور الكلاسيكية القديمة.

وفي نحو سنة 1430م هيمنت أسرة ميدتشي على الطبقة الحاكمة في فلورنسا. وسيطرت على أكبر المصارف في أوروبا. تزعم هذه الأسرة، على التوالي، عددُ من الرجال ذوي الموهبة والطموح. وفي ظل هيمنة آل ميدتشي أصبح الحكم في فلورنسا مشابهًا نظام حكم السادة.

وسيطرت نحو 180 أسرة على الحكومة الجمهورية في البندقية. وجاء منها كل رؤساء هذه الحكومة. وقصر القانونُ الذي صدر 1297م عضوية المجلس الكبير ـ وهو الهيئة الحكومية الرئيسية في البندقية ـ على المنحدرين من الأُسَر التي كان لها مقعد في ذلك المجلس سابقًا. وأصبحت البندقية، مثل فلورنسا، مركزًا رائدًا للنهضة الفنية بدعم من الطبقة الحاكمة.
الحركـة الإنسانيـة.
كانت الحركــة الإنسانيـة أبــرز حركـة فكرية في عصر النهضة. مزجت هذه الحركة الاهتمـام بتـاريخ البشر وأفعالهم بالاهتمامات الدينية. وكان الإنسانيون هم العلماء والفنّانين الذين درسوا موضوعات اعتقدوا أنها تساعدهم على فهم القضايا الإنسانية بشكل أفضل. وقد اشتملت هذه الموضوعات على الآداب والفلسفة. وشارك الإنسانيون في وجهـة النظر التي تقول إن حضارتي اليونان والرومان القديمتين كـانتا متفوقتين في موضوعات كهــذه، وبالتـالي تصلحـان لأن تكونا نموذجين يحتذى بهما. كما اعتقدوا أن على الناس أن يتفهموا العصور الكلاسيكية القديمة ويقدروها حق قدرها كي يتعلموا كيف يوجهون حياتهم.

وكان على الإنسانيين ـ كي يفهموا التقاليد والقوانين والأفكار اليونانية والرومانية القديمة ـ أن يجيدوا أولاً لغات العصور الكلاسيكية القديمة. فقد استخدم الإغريق لغة أجنبية بالنسبة للإيطاليين، كما استخدم الرومان شكلاً من اللاتينية يختلف كثيرًا عن اللاتينية التي كانت تستخدم في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. ولتعلم الإغريقية واللاتينية القديمتين قام الإنسانيون بدراسة فقه اللغة
، (علم معاني الكلمات وتاريخها). لقد أصبح فقه اللغة
، أحد الاهتمامين الرئيسيين للإنسانيين. أما الاهتمام الآخر فقد كان بالتاريخ، الذي عّده الإنسانيون دراسة للمآثر الكبرى التي قام بها رجال العصور الكلاسيكية القديمة الذين تمتعوا بالشجاعة والنبل والحكمة.

إن اهتمام الإنسانيين بحضارتي اليونان والرومان القديمتين قادهم للبحث عن المخطوطات والتماثيل والقطع النقدية وأشياء أخرى من الحضارة الكلاسيكية القديمة لاتزال باقية. فقد نقبوا، مثلاً، مكتبات الأديرة في كل أرجاء أوروبا، وكشفوا عن مخطوطات مهملة منذ زمن طويل، فوق رفوف يغطيها الغبار، كان قد ألفها كُتَّاب كلاسيكيون. ودرس الإنسانيون هذه المخطوطات بدقة وأعدوا طبعات محققة ومقومة لها، وغالبًا ماكانوا يقومون بترجمتها.

كان بترارك وجيوفاني بوكّاتشيو من أوائل إنسانيي عصر النهضة. كشف هذان الصديقان في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي النقاب عن عدد كبير من المخطوطات القديمة المهمة التي كانت مهملة منذ زمن بعيد. فقد اكتشف بترارك أعظم هذه الأعمال تأثيرًا، ألا وهي رسائل إلى آتيكوس
. وهي مجموعة من الرسائل حول الحياة السياسية الرومانية كتبها السياسي والخطيب ماركوس توليوس شيشرون.

ولكون بترارك وبوكاتشيو درسا الكتابات الكلاسيكية القديمة التي أعادا اكتشافها، فقد حاولا تقليد أساليب المؤلفين القدماء، وحثّا الناس على التعبير عن أنفسهم بدقة وبراعة، وهي خصائص لمسها كل جانب في الأسلوب الأدبي الكلاسيكي. ويقول بترارك: ¸الأسلوب هو الإنسان·. وهو يعني أن التعبير الطائش يعكس فكرًًا طائشًا.

أصبح بترارك معروفًا بشعره، وبوكاتشيو معروفًا بمجموعة من القصص تدعى الديكاميرون
، ألّفها بين عامي 1349 و 1353م. وقد حاولا في أعمالهما وصف المشاعر والمواقف الإنسانية التي يمكن أن يدركها الناس بسهولة. وقد أصر كل من بترارك وبوكاتشيو على أن واجب المفكرين التركيز على المشاكل الإنسانية التي اعتقدوا أنها أكثر أهمية من فهم أسرار الطبيعة أو فهم أسرار الإرادة الإلهية. كما اعتقدا أن الناس يستطيعون أن يتعلموا كيف يتعاملون مع مشاكلهم بدراسة شخصيات من الماضي.

رجل البلاط المثالي. أمضى بعض الإنسانيين الإيطاليين معظم وقتهم في بلاطات السادة. وأخذوا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، يطوّرون أفكارًا حول السلوك الصحيح للحاشية، أي النبلاء والنبيلات، الذين كانوا يعيشون في بلاط ملكي. وأكمل المؤلف والدبلوماسي كاستيليوني بالداسّاري كتابه رجل البلاط
. بنى كاستيليوني كتابه هذا على تجاربه الشخصية في بلاط أوربينو. وتُرجم كتابه إلى عدة لغات أوروبية، وكان له تأثير في سلوك بطانات الحكام في مختلف أنحاء أوروبا. كما كان لهذا الكتاب تأثير قوي على النظرية التربوية في إنجلترا خلال عصر النهضة.

رسومات ليوناردو دافينشي

تكشف عن عقليته النافذة التي كانت أكبر عقلية مرت بعصر النهضة. كان ليوناردو مشغول الذهن بفكرة إمكانية طيران الإنسان، وصمم آلة طيران كانت تستخدم مجاذيف دوارة كما في الصورة أعلاه. الفنون الجميلة.
حاول الرسامون والنحاتون، خلال العصـور الوسطى، أن يعطـوا أعمـالهم سمة روحية. وأرادوا أن يركز المشاهدون على المعنى الديني العميق لرسوماتهم ومنحوتاتهم. ولم يكونوا حريصين على أن تبـدو موضوعاتهم طبيعيـة أو نابضـة بالحيــاة. لكن رسامي عصر النهضة ونحاتيه ـ مثلهم في ذلك مثل كتاب عصر النهضة ـ رغبوا في تصوير الناس والطبيعة بشكل واقعي، فـقد صمم معمـاريو العصور الوسطى الكاتدرائيات الضخمة للتأكيد على جلالة الله وعظمته، في حين صمم معماريو عصر النهضة المباني على مقياس أصغر كي يساعدوا الناس على إدراك إمكانـاتهم ومكـانتهم.

فنون القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الميلاديين. أصبح الرسام الفلورنسي جيوتوّ، في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي أول فنان صوّر الطبيعة تصويرًا واقعيًا. وأبدع لوحات جصية رائعة، وهي رسومات على جص رطب، لكنائس في فلورنسا وبادوا وإسيسي. وحاول جيوتوّ رسم أشكال حيّة تظهر العواطف الحقيقية. وصّور عددًا كبيرًا من شخصياته بأوضاع واقعية.

وأبدعت مجموعة بارزة من المعماريين والرسامين والنحاتين الفلورنسيين الكثير من الأعمال في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي. وكانت هذه المجموعة تضم: المعماري فيليبوّ برونلسكي والرسام ماساشيو والنحات دوناتللو.

الفنون في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين. كان سادة الفنون في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر ثلاثة فنانين، هم: رفائيل ومايكل أنجلو وليُونارْدو دافينشي.

وبزَّ مايكل أنجلو أقرانه رسامًا ومهندساً معماريًا وشاعرًا، إضافة إلى أنه كان يعدّ أشهر نحات في التاريخ، كما كان أفضل من صور الشخصية الإنسانية، وتمثاله الشهير موسى
(1516م) مثلاً، يترك انطباعًا مؤثرًا عن القوة الجسدية والطاقة الروحية. وتظهر هذه الخصائص أيضًا في لوحات جصية، تصور موضوعات إنجيلية وكلاسيكية قديمة رسمها مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستين في الفاتيكان. وتعد هذه اللوحات الجصية (الفريسكات)، التي رسمها ما بين عامي 1508 و1512م، من أهم منجزات الفن في عصر النهضة.

أما صور رفائيل الزيتية فهي، من حيث مخططها العام، أكثر رقة وشاعرية من تلك التي صورها مايكل أنجلو. فقد كان رفائيل ماهرًا في رسم الأشكال المنظورة واستخدامه المتقن للألوان. ورسم رفائيل عددًا من الصور الجميلة للمادونّا
(مريم العذراء بظنه)، وعددًا كبيرًا من الصور الشخصية الرائعة. ومن أشهر أعماله اللوحة الجصية مدرسة أثينا
(1511م). وكان هذا العمل متأثرًا بالنماذج الرومانية والإغريقية الكلاسيكية، إذ يصور كبار الفلاسفة والعلماء الإغريق القدماء، وهم يجلسون في أحد الأروقة. فقد جمع رفائيل بين ثقافة العصور الكلاسيكية القديمة وثقافة إيطاليا في عصره.

أما ليوناردو دافينشي فقد رسم اثنين من أبرز الآثار الفنية في عصر النهضة، ألا وهما لوحة العشاء الأخير
الجصيّة (نحو سنة 1497م). وصورة الموناليزا
(نحو سنة 1503م). وكان ليوناردو دافينشي واحدًا من ألمع العقول وأكثرها بحثًا عن الحقيقة في التاريخ كله. ورغب في معرفة عمل كل شيء كما يراه في الطبيعة. وفيما يربو على أربعة آلاف صفحة من المذكرات رسم أشكالاً توضيحية مفصلة عليها شروحات مهمة. فرسم العضلات والهياكل العظمية البشرية بكل دقة، محاولاً بذلك اكتشاف طريقة عمل الجسم. وقد أصبح دافينشي ـ بذهنه الاستقصائي ـ رمزًا لروح عصر النهضة المتجسِّدة في حب المعرفة والاستطلاع الفكري.

النهضة خارج إيطاليا:
انتشرت النهضة، في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، من إيطاليا إلى البلاد الأخرى، كفرنسا وألمانيا وإنجلترا وأسبانيا. دخلت النهضة إلى تلك البلاد مع الزائرين الذي كانوا يتوافدون إلى إيطاليا، من التجار والصيارفة والدبلوماسيين، وطلاب العلم الشباب خاصة. وقد اكتسب العلماء من الإيطاليين الأدوات الأساسية للدراسات الإنسانية، وهي التاريخ وفقه اللغة.

كان لسلسلة الغزوات، التي تعّرضت لها إيطاليا، دور رئيسي في نشر النهضة في أجـزاء أخـرى من أوروبا. فمنذ سنة 1494م إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي، هاجمت إيطـاليا، تباعًـا، جيــوشُ فرنسـا وألمــانيا وأسبانيـا. وافتتن المغيـرون بجمالية الفن والعمارة الإيطاليـة، وعـادوا إلى أوطانهم متأثرين تأثرًا عميقًا بالثقافـة الإيطاليـة.
الخلفية السياسية.
اختلفت البنية السياسية لأوروبا الشمالية والغربية، في عصر النهضة، اختلافًا كبيرًا عنها في إيطاليا. ففي أواخر القرن الخامس عشر الميلادي كانت كل من إنجلترا وفرنسا وأسبانيا قد توحدت دولاً قومية في ظل نظم حكم ملكية. ووفرت هذه الحكومات الملكية القيادة السياسية والثقافية لبلادها. إلا أن ألمانيا كانت قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي انصرفت، إلى حد ما، لتوحيد الدول الألمانية المختلفة.

دعمت الملكية في أوروبا الشمالية والغربية النهضة دعمًا كبيرًا مثلما فعلت المدن في إيطاليا. فالملك الفرنسي فرانسيس الأول، مثلاً، الذي حكم بين عامي 1515م و1547م، حاول أن يحيط نفسه بأبرع ممثلي النهضة الإيطالية. وأحضر إلى فرنسا ليوناردو دافينشي وعددًا كبيرًا من الفنانين والعلماء الإيطاليين. أما في إنجلترا فقد أصبحت عائلة تيودور أهم راع للنهضة. حكمت عائلة تيودور بين عامي 1485 و 1603م. ودعا هنري السابع ـ وهو أول ملك من هذه الأسرة ـ العديد من الإنسانيين الإيطاليين إلى إنجلترا. وشجّع هؤلاء الإنسانيون العلماء الإنجليز على دراسة الأدب والفلسفة الإغريقية والرومانية القديمة.
الحركة الإنسانية النصرانية.
لم يكن علماء عصر النهضة في أوروبا الشمالية والغربية مهتمين كالإيطاليين بدراسة الأدب الكلاسيكي القديم. وسعوا، بدلاً من ذلك، إلى تطبيق المناهج الإنسانية، في دراسة النصرانية. كان هؤلاء العلماء مهتمين، بصفة خاصة، بتحديد النصوص التي تقوم عليها النصرانية وطباعتها بدقة متناهية. وهذه النصوص تشتمل على الكتاب المقدس، ورسائل القديس بول، وأعمال كبار آباء الكنيسة الأوائل مثل: أمبروز، وجيروم وأوغسطين. وُعرف هؤلاء العلماء بالإنسانيين النصارى
لتمييزهم عن أولئك الإنسانيين الذي كانوا مشغولين بشكل رئيسي بدراسة العصور الكلاسيكية القديمة.

ديزيدريوس أرازمس

قس وعالم هولندي. أصبح قائد الحركة الإنسانية النصرانية خلال عصر النهضة. وغالبًا ما كان يهاجم الخرافات والمفاسد الدينية التي لمسها في الكنيسة.
ديزيدريوس أرازمس وتوماس مور.
كان ديزيدريوس أرازمس وتوماس مور قائدي الإنسانيين النصارى. وكانا صديقين حميمين، ورفضا بشجاعة التَّخلَّي عن مُثُلِهما.

ولد أرازمس في هولندا، وتعلّم في باريس، وطاف في أرجاء ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا. كان عالما بارزًا وعلى معرفة كاملة باللغتين اللاتينية والإغريقية.

رفض أرازمس أن يكون طرفًا في أي خلاف سياسي أو ديني. وفضَّل ألا يدعم أي جانب في حركة الإصلاح الديني اللوثري، وهي الحركة الدينية التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي، وأدّت إلى مولد البروتستانتية. لقد التمس كل من الرومان الكاثوليك والبروتستانت دعم أرازمس. إلا أنه احتفظ باستقلاليته بكل تصميم، وعدَّه الطرفان جبانًا. ولكن أرازمس هاجم المفاسد التي رآها في الكنيسة من خلال كتاب مشهور بعنوان مدح الحمق
(1511م). وانتقد فيه أخلاق قادة الكنيسة. واتهم أرازمس كلا الفريقين بالمغالاة في التركيز على الشكليات والطقوس، في الوقت الذي يهملان فيه القيم الروحية للنصرانية.

ولد توماس مور في إنجلترا، وكرّس حياته لخدمة بلاده. وكسب ثقة الملك هنري الثامن ونفّذ له عددًا من الأعمال المهمة. وفي عام 1529م عيَّنه الملك قاضي القضاة، وبذلك جعله في أرفع منصب قضائي في إنجلترا.

كرَّس مور نفسه، من خلال منصبه هذا للمبادئ التي نادى بها أرازمس. لقد اعتقد مور -مثل أرازمس- أن المهم هو إلغاء المفاسد وعدم المساواة والشرور التي كانت مقبولـة وكأنهـا أشيـاء عادية في عصره. أشهر مؤلفات مور هو كتابـه اليوطوبيا
أي المدينـة الفاضلـة (1516م). ويصف فيه مجتمعًا حل فيه الاهتمام العام بصحة كل إنسـان وسعادتـه محـل الانقسـام إلى أغنياء وفقراء وأقوياء وضعفاء.

إن مبادئ مور الثابتة كلفته حياته أخيرًا. فقد اعترض على قرار هنري الثامن بطلاق الملكة كاثرين ملكة أراغون والزواج ثانية. ورفض أن ينازع الملك البابا في سلطته. وفي سنة 1535م قُطع رأس مور بتهمة الخيانة العظمى.
تراث عصر النهضة
ترك عصر النهضة تراثًا فكريًا وفنيًا ما يزال مهمًا إلى يومنا هذا. فمنذ عصر النهضة أخذ العلماء يستخدمون مناهج ذلك العصر فيما يتعلق بتحري الحقائق الإنسانية والبحث عنها، حتى عندما كانوا لا يشاركون في أفكار إنسانيي عصر النهضة وروحهم. ففي الأدب يحاول الكتاب، منذ عدة قرون، محاكاة مؤلفات لكتاب من عصر النهضة، أمثال بترارك وبوكاتشيو، وتطوير أعمالهم قياسًا عليها.

وما يزال تأثير رسامي عصر النهضة ونحاتيه ومعمارييه قويًا بشكل خاص. فقد وضع فنانو فلورنسا وروما معايير ثابتة للتصوير التشكيلي في العالم الغربي. ويسافر الرسامون، منذ مئات السنين، إلى فلورنسا ليمتعوا عيونهم برؤية اللوحات الجصية (الفريسكات) التي أبدعتها ريشة جيوتّو وماساشيو، ويزورون روما لدراسة صور رفائيل ومايكل أنجلو. وألهمت أعمال دوناتللو ومايكل أنجلو النحاتين لأجيال عديدة. وما تزال المباني الشهيرة لبرونلسكي، وغيره من معماريي عصر النهضة، تعّدُ نماذج بالنسبة للمهندسين المعماريين.

ومنذ عصر النهضة لا يزال هناك أيضًا أناس يعدون الجرأة الفكرية لرجال أمثال بترارك وأرازمس مصدر إلهام لهم. لقد بدا زعماء عصر النهضة وكأنهم قد حطموا القيود الفكرية ودخلوا عوالم جديدة.

وربما ليس بمحض المصادفة أن بعضًا من كبار المكتشفين الجغرافيين، في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي كانوا إيطاليين، سبق لهم أن نهلوا الكثير من تراث عصر النهضة. فكريستوفر كولمبوس، مثلاً، كان بحارًا من جنوه وخبيرًا بالملاحة البحرية. وقد استشار ـ من أجل رحلته البحرية إلى العالم الجديد ـ العلماء أنفسهم الذين درَّسوا الرياضيات للمهندس المعماري فيليـبو برونلسكي. وكان، شأنه شأن مكتشفين جغرافيين إيطاليين آخرين هم جون كابوت وجوفاني دا فيراتزانو وأميريغو فسبوتشي، راغبًا في القيام بمغامرات ضخمة لإحراز نتائج لم يسبق للناس أن حلموا بها. وبمعنى آخر فإن وصول كولمبوس إلى أمريكا سنة 1492م كان من أعظم إنجازات عصر النهضة.